الخصومة الامريكية الرسمية لقناة الجزيرة هي أمر مستقر، وربما ستشكل تفاصيلها يوماً حلقة هامة في التاريخ السياسي العربي الحديث. وبين وقت وآخر، ينفجر الجدل في الدوائر العربية حول القناة الإخبارية الأوسع انتشاراً في العام العربي.
أطراف هذا الجدل ومواضيعه معروفة إلي حد كبير، سواء تلك التي تعبر عن مصالح دول وقوي سياسية معينة، أو تلك التي تعبر عن وجهة نظر إعلامية مهنية بحتة. ما يستبطنه هذا الجدل، وتلك الخصومة، هو بالطبع أهمية القناة وتأثيرها علي الشارع وفي أوساط النخب وصانعي القرار علي السواء، حتي أولئك الذين يوجهون لها الاتهام. خلال الأسابيع القليلة الماضية، ثار الجدل من جديد، ربما علي خلفية التغييرات الإدارية الأخيرة في القناة، والتي تحولت هي نفسها إلي مادة للشائعات. وعادت إلي الواجهة بالتالي ما يمكن أن يطلق عليها المسألة الامريكية ـ الإسلامية في الجزيرة. ثمة من يقول، مثلاً، أن الجزيرة تحرص علي إظهار امريكا بصورة سلبية علي الدوام وأن القناة التي اتهمت مراراً من الدوائر الأمريكية بأنها مركز ترويج للقاعدة والإرهاب، قد تحولت إلي تلفزيون حماس .
الجزيرة بالطبع ليست هي القناة الإخبارية الوحيدة في العالم العربي، فسواء في المحيط القطري المحلي أو المحيط العربي الجامع، يتزايد عدد المحطات الإخبارية الجادة. ولكن النجاح الذي حققته الجزيرة وضعها في موقع متقدم علي مثيلاتها ومنافساتها. لم تصل الجزيرة بعد إلي مستوي البي بي سي، سواء من حيث نوعية الوثائقيات أو من حيث عمق وحرفية التغطية الإخبارية، وستحتاج الجزيرة إلي بعض الوقت قبل أن تقترب من المستوي الذي وصله الإعلام البريطاني المرئي العام أو المحطة الامريكية العامة. والسبب في ذلك الفارق معروف، فالكادر الإعلامي العربي هو كادر صغير العمر وقليل العدد نسبياً، والعمل الإعلامي هو فوق ذلك حصيلة فضاء ثقافي ومعرفي وليس التقنية العلمية وحسب. هذا كله، علي أية حال، لم يمنع الجزيرة، في علاقتها بالضمير والوعي الجمعي العربي، من أن تكون مثل البي بي سي في تمثيلها للضمير والوعي البريطاني الجمعي. الجزيرة هي مرآة الرأي العام العربي، هي مؤشر همومه وأولوياته، هي مصدره ومنتجه في الآن نفسه. وهي إضافة إلي ذلك واحدة من أهم تعبيرات قدرة العرب علي الإنجاز، فهي المؤسسة العربية الأبرز التي تضم عرباً من المغرب إلي قطر، صحافيون ومراسلون وفنيون ومنتجون وإداريون، يعملون ويعيشون في فضاء واحد، ويرون كيف يمكن لهم معاً تحقيق نجاح كبير. لهذا، ولأشياء أخري يصعب تعدادها جميعاً، يعتبر الجدل حول روح الجزيرة جدلاً يتعلق بالجدل حول وجود العرب وخياراتهم نحو المستقبل، أكثر منه حول مجرد محطة للعمل الإعلامي المرئي.
مشكلة الجزيرة مع الولايات المتحدة، ومع أصدقاء السياسة الامريكية العرب، هي بالتأكيد ليست مشكلة مع الغرب، وهي في جوهرها مشكلة سياسية وليست مشكلة ثقافية أو فكرية. ليس ثمة جدل فرنسي أو ألماني حول الجزيرة، مثلاً، وحتي في بريطانيا، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة، فإن الجدل محصور في الوايتهول، بينما ينظر للقناة باحترام كبير في الدوائر البرلمانية والإعلامية والجامعية، لا سيما تلك المهتمة في الشؤون العربية والشرق أوسطية. وهي مشكلة سياسية لأن الجزيرة كأداة وتقنية ووسائل عمل، كما عدد هائل من المتخصصين ودوائر العلوم والاستهلاك وأنماط المعيشة، هي مؤثر غربي حديث. علاقات التبادل العربي - الإسلامي مع القارة الأوروبية هي علاقات تعود لأكثر من ألفي عام، ولا فكاك منها، تنافساً وتعليماً وثقافة وفلسفة، وصراعاً في بعض الأحيان. وفي شكل مباشر أو غير مباشر، في برامج متخصصة أو غير متخصصة، وفي الأعمال الوثائقية وغير الوثائقية، في خلفيات وأصوات وقيم المعلقين والضيوف والناطقين الرسميين، يحتل الغرب الثقافي والفكري والحضاري، الامريكي والأوروبي، بما في ذلك تقاليد وعمل الديمقراطيات الغربية، مساحة كبري من مساحات بث الجزيرة. ولعل الاستجابة التي تجدها الجزيرة لدي أبناء الجيل الثاني من العرب المستقرين في أوروبا الغربية والامريكيتين، الذين يعتبرون الأكثر التصاقاً بالثقافة والتعليم ونمط الحياة الغربية، تكشف هذه العلاقة الوثيقة بين مادة القناة وما هو غربي حديث. ولكن هناك مشكلة ما للسياسة الامريكية وأصدقائها وحلفائها العرب مع الجزيرة.
المشكلة في مشكلة هؤلاء مع الجزيرة أنهم لا يريدون أن يروا أنها جزء من مشكلتهم مع العالم ككل. مشكلة السياسة الامريكية الخارجية مع العالم تعود علي مطلع الخمسينات وبروز ما يعرف بنظام الأمن القومي الامريكي الذي أعطي للسياسة الامريكية الخارجية منحاً امبراطورياً. وقد تفاقمت هذه المشكلة منذ 2001 وقيام الإدارة الامريكية بعسكرة النظام الدولي، مطلقة جيوش الغزو في كل اتجاه وعاملة علي تأسيس المزيد من القواعد العسكرية الامريكية عبر العالم. وهو التوجه الذي أكدته الاستراتيجية الرسمية لعام 2002، التي أسست لسياسة الحرب الاستباقية. الصورة السلبية للسياسة الخارجية الامريكية ليست قاصرة علي الجزيرة، ولا حتي علي تصور العرب والمسلمين للعالم، بل هي الصورة المسيطرة علي التغطية الإعلامية البريطانية والأوروبية في شكل عام، وهي الصورة التي تعكسها استطلاعات الرأي العام العالمي من الصين إلي البرازيل. والمدهش، للدوائر العربية علي الأقل، أنها الصورة التي تهيمن الآن علي الإعلام الامريكي نفسه. في عدد مجلة النيوزويك الأخير، يكتب فريد زكريا، رئيس تحرير النسخة الدولية من المجلة الامريكية الأسبوعية واسعة الانتشار، وأحد الاعتذاريين والمسوغين الرئيسيين للسياسة الخارجية الامريكية طوال السنوات الخمس أو الست الماضية، ليقول ان المهمة الأولي للرئيس الامريكي القادم، جمهورياً كان أو ديمقراطياً، هي إنقاذ الوضع الامريكي الدولي وإعادة بناء الصورة الإيجابية لامريكا.
لا البي بي سي، لا الجزيرة، ولا أي مؤسسة إعلامية مستقلة جادة أخري في العالم، عليها السعي لإرضاء الحكومة الامريكية ولا أية حكومة أخري، بما في ذلك حكومة بلادها. مهمة الإعلام الحديث هي في جوهرها مهمة نقدية، تحليلية، كاشفة، ومضيئة للخفي والغامض وما يستبطن الشر أو الخطأ أو تجاوز القوانين والأعراف والقيم الإنسانية المشتركة. وعندما يغفل الإعلام عن مهمته فإنه يفقد مبرر وجوده، يتحول إلي شاهد زور، أو يصبح أداة دعاية. قيام الجزيرة بهذه المهمة ليس استجابة لرأي الشارع، مهما كان رأي هذا الشارع ، بل هو التزام بما يعنيه الإعلام الحديث في عالم يزداد تعقيداً. وربما من المهم التذكير بأن المعركة التي خاضتها البي بي سي مع حكومة بلير حول الحرب علي العراق، والتي خسر فيها رئيس مجلس إدارة المؤسسة موقعه، انتهت بانتصار رواية البي بي سي والتوكيد علي أن تقديرها للأمور كان صحيحاً.
الاتهام الآخر الموجه للجزيرة هو أقل تعقيداً وأكثر هشاشة. عندما كان الخطاب الاتهامي الامريكي للقناة يتمحور حول أشرطة قادة القاعدة، كانت الجزيرة (ولا تزال) تحمل لمشاهديها أسبوعياً صوت الشيخ القرضاوي، أكثر العلماء المسلمين السنة المعاصرين سلطة وتأثيراً، وأكثرهم وضوحاً في خصومته مع دعاة العنف، نهجاً وشرعاً. وبالرغم من أن الشارع الإسلامي هو الأكبر والأوسع بكل المقاييس، فإن برامج الجزيرة تتبع سياسة متوازنة في إفساح المجال لوجهتي النظر المتعارضتين في كل القضايا المطروحة للنقاش، من الديمقراطية، العنف، الاحتلال الأجنبي، المقاومة، العلاقة بالغرب، الدستور، المرأة، القومية، الإسلام السياسي ...إلخ. ولكن الأهم من ذلك كله، وسواء تعلق الأمر بحماس أو أية قوة إسلامية أخري، فإن كادر الجزيرة هو في أغلبيته العظمي من أصحاب الخلفيات غير الإسلامية أو من أصحاب اللاخلفيات، إن جاز التعبير. الأغلبية الساحقة من مقدمي البرامج الرئيسية والمذيعين لا يمكن اعتبارهم من المؤيدين للتيار الإسلامي السياسي بأي حال من الأحوال، وعدد ملموس منهم من العرب غير المسلمين أصلاً. الصورة التي يرسمها هؤلاء ككتلة هي صورة الميراث التعددي لسكان هذه المنطقة من العالم، وما يجمع هؤلاء الرجال والنساء، الشبان والشابات، هو حرفية عالية، تتقدم علي حرفية أية كتلة إعلامية عربية أخري. ولا يقل أهمية أن هذه النوعية من العاملين في القناة هي نفسها نوعية مراسليها ومدراء مكاتبها، بما في ذلك مكاتب الجزيرة الرئيسية في القاهرة ورام الله وواشنطن وأنقره، وغيرها.
قد يكون عبء الجزيرة الكبير هو عبء اللحاق بالمستويات الرفيعة للإعلام المرئي، لا سيما التلفاز البريطاني الذي يعتبر الإعلام المرئي المرجعي للعالم بأسره. ولكن الجزيرة بالتأكيد لا تعاني من مشكلة أمريكية خاصة ولا من توجه إسلامي خاص أو عام. والذين يوجهون هذه الاتهامات يعرفون هذا علي وجه اليقين. الذين يوجهون هذه الاتهامات لا يستهدفون إصلاح الجزيرة والارتفاع بمستواها، يريدون تغيير القناة بوجه كلي. ثمة عدد من الإنجازات الإيجابية البارزة التي حققتها هذه المؤسسة، ربما في شكل أكبر بكثير مما توقع لها كثيرون ممن كانت لهم علاقة بتأسيسها. هذه القناة لم تصنع فضاء عربياً مشتركاً وحسب، بل ونهضت بمستوي الخطاب العربي، وهي ليست محدودة في توجهها بدوائر النخبة، بل أصبحت الجسر الثقافي والسياسي، الوحيد ربما، بين النخبة وعامة الناس. الجزيرة لم تكسر احتكار المعلومات وحسب، بل وجعلت الناس شركاء في الأحداث الكبري التي يعيشونها، لم تقبل بقداسة غير المقدسين وحسب، بل واستباحت حرمة الظلم والسيطرة والاستبداد. وليس ثمة ساحة ديمقراطية، أفسحت المجال لتعددية الخطاب العربي، بل والعالمي، فهي هذه الساحة. هذه هي مشكلة الجزيرة، وهذا ما يريد البعض إطاحته وتقويضه.
الجزيرة تحتاج النقد، بل والنقد القاسي والمستمر، لأن الموقع الذي تحتله يتطلب مثل هذا النقد والمحاسبة. ولكن ثمة فرقا بين نقد يستهدف الارتفاع بمستوي القناة الفني والثقافي والحرفي، وذلك الذي يستهدف التقويض، استرضاء هذه الدولة وتلك، أو الهبوط إلي مستوي صحافة التابلويد
"د. بشير موسي نافع"
(خدمة القدس العربي)
14/06/2007
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
! مشاريع السلام العربية
! بعد أربعين عاما من النكبة
!"مجلس النواب الأمريكي يهنئ اسرائيل في الذكرى ال40 "لاعادة توحيدالقدس

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire